السبت، 5 مايو 2007

عين الرمانة: القلعة التي كانت خفيّة قبل مرور تلك البوسطة



إنزل . 
صاح بوب من نافذة سيارته في وجه كوجاك الذي خرج إلى الشرفة على صوت بوق السيارة. النهار في أوله. إتكأ كوجاك على عكازتيه ولاقى رفيقه الذي انطلق إلى شارع آخر في عين الرمانة. جمع بوب وكوجاك الشباب والقى أحدهما خطاباً قصيراً: ليس هناك دعم ولا ذخيرة ولا صليب أحمر ولا مال. الوضع هكذا. من يمشي معنا؟ ، قفز الشباب: نريد سلاحاً. 
وُزّع السلاح المخبأ منذ مدة. بعد أقل من ساعة، أتى صوت الرصاص من ناحية طريق صيدا القديمة. رشق الماغ استهدف شاحنة عسكرية سورية وقتل كل من فيها. فتح الشباب رسمياً جبهة عين الرمانة من جديد، مع السوريين هذه المرة، بعد هدوء استمر أكثر من سنة ونصف، موعد دخول قوات الردع العربية إلى لبنان. نحن في العاشر من شباط .1978 مساء أمس ذهب بوب وكوجاك وثالث من آل شمعون في زيارة إلى فخامة الرئيس (السابق حينها) كميل شمعون. وضعوه في الصورة: تبادل الجيش اللبناني والسوريون النار عند حاجز في الفياضية. بعدها طوّق السوريون وزارة الدفاع. ويا فخامة الرئيس.. إذا سقطت الوزارة سقط لبنان. علينا أن نخفف الضغط عن الجيش. يجب أن نفتح جبهة عين الرمانة. 
ترووا ، قال فخامة الرئيس. بعد إصرارهم، قال: تتحملون مسؤولية أنفسكم. هكذا نفعل دائماً، أجابوه، وغادروا، وفي نيتهم الحرب. في صباح اليوم الذي نحن فيه، وقف بوب عند صيدا القديمة. عدّ 64 شاحنة تحمل كل منها دبابة روسية الصنع في طريقها إلى بعبدا. ذهب الى كوجاك. وكان ما كان. 
شباب الكتائب في عين الرمانة قرروا التزام موقف الشيخ بيار الجميل الداعي إلى التهدئة. بوب وكوجاك ومعهم شبان النمور الاحرار قاتلوا لأسبوع طويل. لم يخفف عنهم في المعركة إلا محور الحدث. بعد الاسبوع، بلغ عدد قتلى القوات السورية 180 قتيلاً. كان المرحوم داني شمعون يبحث عن كوجاك وبوب كي يوقف المعركة. عين الرمانة تعرضت لقصف سوري عنيف. بعد مفاوضات مع قوات الردع سحب السوريون قتلاهم. هدأت الجبهة لشهرين، اندلعت المعارك مجدداً في 13 نيسان .1978 في الذكرى الثالثة على حادثة البوسطة. لم تدم طويلاً. إنفجرت مرة ثالثة بعد شهر. هذه المرة وعد ضابط سوري كبير بأنه سيدمّر عين الرمانة ثم يتمشى إليها. قُلب زفت شوارعها رأساً على عقب. شارع بيار الجميل صار مرتعاً للأشباح. إنقطعت الإمدادات الى الجبهات. كان المرحوم الياس حنوش يخبز في فرنه ويجول بسيارة متهالكة على البنايات يرمي ربطات الخبز على مداخلها. حين حاولت الوحدات الخاصة في الجيش السوري الدخول إلى عين الرمانة، خرج اليها المقاتلون من تحت الردم. أعادوا الجثث عارية. غنموا الأسلحة والثياب. 
يومها كانت الجبهات تفلت فرادى. في 28 حزيران 1978 وقعت مجرزة في قرية القاع في البقاع راح ضحيتها 26 شخصاً. انفجرت حرب ستسمى لاحقاً حرب المئة يوم . حينها انفتحت في كل لبنان. 

***

راويا الحكايات أعلاه هما عبد الله عزّام (بوب)، وجورج الأعرج (كوجاك). قياديان سابقان في حزب الأحرار. الآن هما معارضان شديدان للرئيس الحالي للحزب دوري شمعون. خمسينيان. رفيقا بندقية وعمر. إنضما الى كتيبة النمور الأحرار سنة .1968 هذه اسسها المرحوم جورج بردقان كفرقة لحماية الرئيس شمعون بعد محاولة لاغتياله. بردقان سيقتل لاحقاً في كمين نصب له في الدامور. وستسمى ثكنة للأحرار في عين الرمانة باسمه. بعيونهما وبعيني مقاتل كتائبي متقاعد اسمه اندريه سمعان كما بوثائق أخرى كانت تسمى إنعزالية ، سنقرأ في هذا النص سطوراً من عين الرمانة . 
حقائق الحرب هي في أماكن أخرى، متعددة ومتنافرة. والبحث عن حقيقة ما سيظل جارياً أبداً. ما سيقولونه هنا هو ما اختبروه. كيف رأى هؤلاء المقاتلون الحرب، تكاد تكون الفكرة الاقرب الى صلب هذا النص. أما لماذا لا يمكن الدخول الى عين الرمانة إلا من خلال فجوات متاريسها القديمة، فلأن هذه المنطقة من الضاحية الجنوبية أصابتها لعنة الحرب طويلاً، كأنما عين الرمانة كانت حياً خفيّاً، صار مرئياً يوم مرت تلك البوسطة فيه، وقد قرر سائقها الغافل عن بلده أن يختصر الطريق إلى مخيم تل الزعتر. أو ربما قبل ذلك بساعات، حين كان الشيخ بيار الجميل يفتتح كنيسة، وسقط جوزف أبو عاصي قتيلاً بعدما أطلق الغرباء النار عليه. 

الملعونة 


عشرة أشهر هي عمر الأحداث الدامية التي عاشها وطننا الحبيب لبنان.. 
عشرة أشهر ونحن نقدم الدماء الطاهرة الزكية على مذبح وطننا المفدى.. 
عشرة أشهر وعشرات مقاتلينا يضحكون للموت في سبيل لبنان.. 
خلال تلك الأيام كانت هناك هدنة او استراحة مقاتل إلا في منطقتنا الحبيبة عين الرمانة الصامدة.. 
ابطالنا كانوا دائماً ساهرين وعلى أهبة الاستعداد.. كنا نصل الليل بالنهار وكلنا أمل بأن أرز لبنان لن يشوّه بأياد غريبة.. 
كانت تصلنا أخبار بأن الغرباء عن لبنان يضحكون عند ذكر عين الرمانة ويؤكدون بأن احتلالها لن يستغرق معهم أكثر من دقائق معدودة.. 
كنا نلتزم الصمت كي لا تفقد المفاجأة رونقها.. ثم تمت أول محاولة.. والثانية والثالثة والرابعة بعد المئة ثم الألف. وكانت النتيجة خسائر فادحة في أرواح ومعدات الغرباء الخونة.. وصمود وبطولة وهجوم معاكس أخرس المهاجمين وأصابهم بالذهول.. 
على كل جبهاتنا كانت الخسارة تلاحقهم.. في سيدة اللورد، معمل الريحة، كاليري زعتر، محمصة صنين، محطة نعمة، شارع مار مارون، مستديرة البريد، بيت الكتائب في الشياح، المطاحن، المازدا، الداتسون، حارة المجادلة وبقية جبهات عين الرمانة ... 
يكثر الكاتب المجهول من النقاط في مقدمة كتاب عين الرمانة، بطولة وصمود . هذه محاولة تقليدية للتأثير بالقارئ. الكتاب باللغة الركيكة هو ملف مصوّر صادر عن مركز شباب مار مارون (الكتائب) من دون ذكر لتاريخ الإصدار. النسخة التي يحتفظ بها اندريه يونس متهالكة، لكن غالية عليه. 
الكتاب يحفظ عشرات الصور عن عين الرمانة بعد مرور أشهر على بداية حرب السنتين (75 76): تلال التراب المرفوعة بين الأبنية على طول جبهة صيدا القديمة. صور المحاور والأبنية المهدمة وآثار الرصاص والقذائف حتى على الجبهة المقابلة. التعليق تحت إحدى الصور يقول: الجبهة الموازية لشارع مار مارون... في أقصى الصورة كانت هناك مدرسة حوّلوها الى متراس فحوّلناها إلى أنقاض! ، وفي صورة أخرى: قصف مدفعيتنا ظاهر على بناية وزني وبناية شركة مياه عين الدلبة وبناية محمصة الشياح . 
شبابنا يظهرون في كل الصور، في وضعيات مقاتلة. خبأ الكتاب عيونهم باللون الأسود. كثير منهم كانوا مقنعين أصلاً. احتفاء كتائبي بصمود عين الرمانة ودمارها ودمار الجبهة المواجهة. احتفاء يصل الى الأطفال. اسمهم هنا أشبالنا . نراهم بقامات قصيرة وملامح الأولاد، يصوّبون بنادقهم من خلف المتاريس. أندريه يونس كان في الثالثة عشرة حين حارب. وكان يتمدّد على الأرض حاملاً المعدلّة ويسند المسؤول ظهر الولد بقدمه كي لا يقذفه ضغط البندقية إلى الخلف. شقيقه الأكبر كان من أوائل جرحى الحرب. أُصيب بالشلل. اشقاؤه الأربعة أُصيبوا في جبهات عين الرمانة. أندريه أصيب أيضاً ومراراً. كان يعلم أن الصوماليين والمصريين والسودانيين والليبيين واليسار يريدون دخول عين الرمانة. لم تكن يوماً حرباً طائفية . 
الفلسطيني الغريب كان يريد لبنان. وتداعى أبناء المجتمع ليحموا بيوتهم ومنطقتهم . أبناء المجتمع يومها كانوا الكتائب والنمور الأحرار. وصارت المقولة ايقونة: إذا سقطت عين الرمانة سقط لبنان . 

***


عين الرمانة باتت ترساً تحمله الذراع المسيحية في الحرب، هي التي كانت بساتين ليمون ورمان وإكي دنيا في الأربعينيات. بساتين تفصل بين فرن الشباك والشياح. أصحابها يعيشون على طول طريق صيدا القديمة بين الطيونة وكنيسة مار مخايل، وهي كنيسة رعية الشياح، المسيحيين الموارنة بمعظمهم. حدود بلديتي الشياح وفرن الشباك تتقاطع في هذه البساتين. عين الرمانة كانت من الشوارع الفرعية في فرن الشباك البلدة الجبلية العتيقة. كان العمران يمتد إلى عين الرمانة بطيئاً قبل ,1958 ومن الجهتين. بعد تلك الثورة بدأت عين الرمانة تشهد زحفاً عمرانياً كبيراً. في السنوات اللاحقة سيرفع الدروز أبنية وستقطن فيها طبقة متوسطة من خليط طائفي وجد في ضواحي بيروت إيجاراً رخيصاً وقريباً من المدينة الغالية. ستينيات لبنان الخصبة في كل شيء، وجدت في عين الرمانة أرضاً خصبة للسياسة. وفي بابل ، كما يسميها الصحافي الياس سحاب، كانت الناس تعيش في جماعات وكل يحكي مع من تجمعه به اللغة السياسية. لم يسمح الوقت لعين الرمانة بأن تصنع لها مجتمعاً خاصاً بها يميزها. عاجلتها الحرب. والمجتمع الحالي قام خلال الحرب وبعدها. مجتمع صاف ومن لون سياسي وطائفي واحد. 
سحاب، الصحافي المتقد بالناصرية حينها، انتقل وذويه للعيش في عين الرمانة سنة ,1965 آتياً من الطيونة القريبة. تصاعدياً كان سير الأحداث في تلك السنوات. المقاومة الفلسطينية يشتد عودها لبنانياً والقوى المسيحية تتحضر. ذاكرة سحاب ترصد حكاية بسيطة سنة 1967 لكن ذات دلالات: شقيقه فيكتور يتلاسن مع جاره ويطلق عليه اسماً إسرائيلياً بعد شماتة الجار بالعرب إثر النكسة. 
في بداية السبعينيات بات القدر بمحتوياته المتفجرة على وشك الغليان. انتشر السلاح سراً وصارت تجمعات الشبان في الزوايا وفي محلات الفليبرز الشهيرة تجمعات شبه حزبية. مرّت البوسطة. عند مرآة تنتصب لتسمح للسائقين برؤية الآتين من الكوع، لعلع الرصاص. أندريه يونس وبوب عزّام وكوجاك يقولون إنها كانت ملآنة بالمسلحين. بعد يومين على الحادثة، ذهب الياس سحاب ليزور امين معلوف، الروائي الذي كان صحافياً في النهار حينها. معلوف كان آتياً من فيتنام وكان يغطي نهاية الحرب فيها وإعلان السلام. سأل معلوف واحداً من تلك الأسئلة التنبؤية التي تلتصق بالذاكرة لصدقها: ما الذي يحدث في البلد؟ أتركه لأغطي السلام في فيتنام. أعود فإذا بحادثة عين الرمانة؟ ماذا؟ ستنتهي الحرب هناك وتبدأ في لبنان؟ 
في ذاكرة بوب إلتصق مشهد: إسعاف تنهب الأرض وباباها الخلفيان مفتوحان يرفرفان. يغلقان ويفتحان على جريح ممدّد. وشبان يطاردون السيارة يريدون الإجهاز على الجريح. ورئيس قسم الكتائب في المنطقة يركض خلف الشبان، ببزة عسكرية ونظارات شمسية، شاهراً مسدس كروم في الهواء. كان يصرخ فيهم لادغاً بحرف الراء: ارجعوا. ارجعوا. ارجعوا لورا كلكم . هذا الرجل أنقذ الجريح من القتل وسمح للإسعاف بمتابعة طريقها. إسمه انطوان غانم، النائب الحالي عن القوات اللبنانية في البرلمان اللبناني. 
عند تلك المرآة ارتفع نصب للسيدة العذراء كبير. صار اسمه مزار سيدة المراية ، كشكر من أهل عين الرمانة للسيدة التي حمتهم في ذاك النهار. أما المراية التي كان يستعين بها سائقو البوسطات، فلم تعد موجودة. 

***


لمحاربة الفلسطيني "الغريب"، أقام النمور الأحرار الحاجز الأول في عين الرمانة عند محمصة صنين. إلياس سحاب غادر البيت في نزوح لهذا الصحافي الماروني المذهب والعروبي الهوى. وكي يقنع والده بالمغادرة ذهبا معاً الى أحد نواب المنطقة. قال النائب لهما: نحن لا نتعامل مع العائلة كعائلة، بل كأفراد. ومن كان من العائلة يعمل ضد مصلحة لبنان، فالأفضل له ألا يبقى في المنطقة. العائلة اللبنانية التي ولد كبيرها في يافا في فلسطين، ستبقى موسومة بالفلسطينية وتغادر عين الرمانة بعد سنة من حادثة البوسطة. كان المسلحون في هذه السنة يطرقون على الأبواب ويسألون السكان. بدأ النزوح الدرزي والفلسطيني والشيعي من عين الرمانة. ليندا شقيقة كمال جنبلاط أصرّت على البقاء في بيتها في المنطقة وقتلت فيه. المسلحون كانوا أيضاً يجولون على الدكاكين، يسألون أصحابها عمن يبتاع جريدة المحرر أو يدخن جيتان أو غيلواز. المحرر والدخان الفرنسي كانا عادتين يساريتين، وعبرهما، كان الكتائب يبحثون عن اليساريين. كان عشرات الرفاق الحمر يقطنون في عين الرمانة. بكّروا في حزم الأمتعة. 
في حرب السنتين، كانت المعادلة تقول: عين الرمانة مقابل تل الزعتر. سقوط إحداهما نصر كبير للطرف المقابل. دخول الجيش السوري أسقط تل الزعتر. هذا ما لن يذكره أي من المقاتلين الثلاثة. في تلك المعركة أُصيب أندريه يونس الكتائبي في ساقه وكان عمره 14 سنة. في تلك المعركة أيضاً ستقطع ساق كوجاك. بعدها بسنتين تقريباً، نزل كوجاك على عكازتيه ليوافي صديقه بوب من أجل إشعال جبهة عين الرمانة في وجه السوريين. 
حرب المئة يوم ستفتح كل جبهات لبنان في أول أيام تموز من العام .1978 في 10 تموز 1978 ستخترق رصاصة متفجرة رئة بوب عزّام. لشدة ضغط انفجارها في جسده، سيصاب بوب بشلل نصفي سفلي، يقعده إلى الأبد. 
الياس سحاب، سيكون قد انتقل إلى بيت جديد في ساقية الجنزير. هناك يؤسس عائلة ويظل يمارس مهنة الصحافة. ولن يشعر بعدها بأي حنين إلى عين الرمانة، المنطقة الملعونة بقدرها كخط تماس. 

مئة يوم من العزلة 

يجلس بوب عزام على كرسيه المتحرك في مقهى ليناز في ABC الأشرفية وإلى جانبه صديقه جورج الأعرج. يقطع دفقهما الكثيف للذكريات مزاح مثل أن يقول جورج: أنا لي أقدمية الإصابة عليك، ويجب عليك أن تؤدي لي التحية. يجيب بوب: المثل يقول: لا تعرج أمام مكرسحين. 
يضحك المقاتلان السابقان والمعارضان السياسيان الشرسان لدوري شمعون اليوم. هما من الأحرار المعارضة. يستحيل لجمهما عن الخلط بين الذكريات والرأي السياسي في الآني من الأحداث. بعد استطرادات سياسية طويلة، يعود كوجاك إلى ذاكرته: كنا زعران شيك ، أي أنه كان من المحاربين خريجو جامعات يتحدثون الفرنسية والانكليزية ويحملون البندقية ويضلعون بلغة الشارع الزقاقية. كوجاك، حين بدأت الحرب، كان طياراً في الميدل إيست. أخذت الحرب إبن الرابعة والعشرين إلى الجبهات وجعلت منه لاحقاً رئيس أركان النمور الأحرار. بوب غادر إلى فرنسا بعد إصابته. كوجاك بقي يقاتل في عين الرمانة. في دفق الذكريات نادراً ما يمر اسم مقاتل ما زال حياً أو أنه لم يصب. الأسماء مقرونة بحكايات قصيرة تمر بسرعة هائلة مثل: ترفندا انقشطت أجرها على المازدا. ترفندا مقاتلة من النمور كانت معلمة مدرسة، والمازدا محور في عين الرمانة كان معرض سيارات. على هذا المنوال تمر سيرة الحرب. والمرحومون كثر. قدر عين الرمانة كان شديداً عليها. 
في تحقيق لصحيفة الأنوار نشر بتاريخ 9 كانون الثاني ,1979 يكتب ميشال الشويري: هذه المنطقة الساحلية التي تحوّلت مع الوقت إلى مدينة تعد 150 الف نسمة، تعيش اليوم في حداد مستمر. كل امرأة فيها إن لم تكن ترتدي الاسود، فلا بد أنها ارتدته في مطلع الأحداث. 
الحزن يلفها من الداخل والخارج. الخسائر فادحة (...) نسبة العيش والمعيشة داخلها تدنت كثيراً. الاقتصاد والحركة العمرانية والاجتماعية كلها مرتبطة بشيء واحد هو الخسارة الشاملة. ثمة انعكاسات اجتماعية ونفسانية بلغت حداً لا معقولاً.. ويقول كاهن الرعية يومها الاب ايلي كاترا: منذ العام 1975 وحتى اليوم، لم تشعر المنطقة بالارتياح والطمأنينة. الكابوس لا يزال موجوداً في النفوس، وهو كابوس فرض علينا فرضاً وكأن هذه المنطقة كتب لها العذاب، والشقاء النفسي والجسدي، فكانت وكأنها مفتاح لنفق مظلم قاتم . 
كانت عين الرمانة قد مرّت في حرب المئة يوم. سنة 1979 صدر كتاب أكثر احترافاً هذه المرة، صادر عن الشعبة الخامسة في هيئة الاركان العامة لقيادة القوات اللبنانية. يحمل الكتاب عنوان: المقاومة اللبنانية والاحتلال السوري، حرب المئة يوم صيف 1978 . يوثق الكتاب الحرب يوماً بيوم من دون ذكر أسماء الصحف التي نشرت الأخبار والصور. في هذا الكتاب كانت الضاحية الجنوبية منطقة تخص الأحزاب المسيحية وتتعرّض للقصف طوال الليل من القوات السورية. 
في الصور تمر عين الرمانة، قلعة الصمود، بأرتال محترقة من السيارات وأبنية مهشمة وأعداد قتلى تتزايد صفحة بعد صفحة. طوال مئة يوم من الجولات وسقوط وقف إطلاق نار بعد الآخر، ستلتهب محاور عين الرمانة وتدك أبنيتها وشوارعها. وتعاني حصاراً مريراً على حد قول بوب. غير أن عين الرمانة، القلعة، لم تسقط. بعد عام، في ,1980 ستسقط. فقد قرر الشيخ بشير الجميل توحيد البندقية المسيحية، أو بكلام آخر، سحق الوطنيين الأحرار في صباح قائظ من تموز، حيث ستقع مجزرة الصفرا حين أطبقت قوات الجميل على نحو مئة من الأحرار وأردوهم قتلى. كوجاك ومعه ثمانون عسكرياً لن يترك عين الرمانة إلا في تشرين الأول من سنة .1980 بعد مؤامرة حاكها الضابط في الجيش اللبناني يومها جوني عبده مع بشير الجميل، حيث سحب الجيش اللبناني من الحواجز فهجم آلاف العناصر من الكتائب إلى عين الرمانة. ومع ذلك، صمد كوجاك ورجاله أربعة أيام، قبل أن ينسحبوا. 
وحّد بشير الجميل السلاح. أما عين الرمانة فصارت كما كل المناطق المحاذية لخطوط التماس. الخطوط القريبة من العدو خالية إلا من المسلحين وأشباحهم، وفي الداخل تقطن طبقة فقيرة مرهقة، بعضها تهجر أيام الحرب، وبعضها الآخر ليس قادراً على ترك بيته. طبقة تعيش في أبنية هشمتها الحرب، خلف نوافذ وأبواب شرفات إما وضع عليها الخشب، وإما الصق عليها النايلون. غالباً، كانت عين الرمانة تتنظر الحرب التالية. الحرب ستأتي لآخر مرة عنيفة وقاسية من أهل البيت أنفسهم، جيش الجنرال ميشال عون اللبناني وقوات سمير جعجع اللبنانية. عين الرمانة ستسقط في يد الجيش بعدما تشهد تلك الشوارع نفسها معارك طاحنة ودماراً هائلاً. هذا سقوط داخلي لمرة ثانية لا يحسب على عين الرمانة. لكن، في النهاية، سقط مشروع برمّته في عصر لبناني جديد، بدأ صباح 13 تشرين الأول .1990 القلعة كانت أصغر بالطبع من مقاومة هذا العصر، غير أنها ظلت تورث أمجادها لأجيالها اللاحقة. 

القلعة 


ليس غريباً سماع عبارة مثل عين الرمانة ليست الأشرفية . المنطقة التي راحت تهدم أبنية متهالكة لترتفع في مكانها أبنية أخرى، وعاد إليها ملاكون عتيقون من خارج ملاك الطائفة المسيحية، ظلت ذكرياتها تتناسل. محمصة صنين، حيث المتراس الأول، بقيت محوراً يتقاتل عنده الخصوم بالسلاح الأبيض. أندريه يونس يقول إن القمع الذي تعرّضت له القوات في عهد السوريين أدى إلى تعلق أشد بالقضية. وفي كل بيت ستجد من يروي للجيل الآتي عن بطولات عين الرمانة ضد الغرباء. وهي، مثلها كمثل الأحياء الشعبية في أي مكان، تشهد مراهقين يتجمعون في زوايا الشوارع ويقررون صون شرف منطقتنا ضد تعرّض الغرباء لفتياتنا. هذه كانت تهمة تتكرر. والمعركة الأشد كانت بعد ضرب شابين أتيا لشراء البيرة، ليهجم بعدها عشرات الشبان من الشياح الى عين الرمانة ويتدخل الجيش اللبناني لفض ذاك الاشتباك. نادراً ما كانت طريق صيدا القديمة من دون جيش يقف عند نقاط العبور بين المنطقتين في الشوارع التي تمر في عرض طريق صيدا وتحمل الاسم نفسه. إلى أن صارت النقاط ثابتة بعد أحداث 5 شباط في الأشرفية. 
في أوج السلطة السورية في لبنان، كان يمكن لثلاثة مراهقين أن يجرؤوا على ضرب عامل سوري أضاع طريقه قبل أن يفر صوب الشياح. القلعة الآن اتسعت وكثر سكانها. وما زالت خليطاً من أبنية عتيقة خمسينية وأخرى ستينية وثالثة قامت بعد الحرب. لا ميزة للشوارع إلا في تاريخها كمحاور. ربما الميزة في شعار القوات المتكرر بكثافة هائلة على جدران أبنية كثيرة، وفي صور بشير الجميل وسمير جعجع المرفوعة. في الطابق الأرضي من المبنى الذي يقطن فيه اندريه سمعان، يمكن رؤية صورة الجنرال على الجدار. بين البيتين، يقطن جار لأندريه، وصديق قريب على ما يصفه، شيعي من السكسكية. 
حتى الآن، المسلمون في عين الرمانة قلة. والطبقة التي كانت متوسطة، جعلتها الحرب تنحدر إلى ما دون هذا. في الشوارع النظيفة المرتبة تكثر المطاعم الصغيرة التي يلجأ إليها المصابون بالبطالة. شبانها يتعلمون ومن يجد طريقاً إلى الخارج يغادر. في الانتخابات النيابية الأخيرة أعطت المنطقة الغالبية العظمى من أصواتها للعماد ميشال عون. وعلى ما يقول عزّام فالأكثرية ما زالت عونية. غير أن القواتيين على قلة عددهم، نشطوا في سرعة قياسية بعد خروج قائدهم من السجن. نشاطاتهم وأعلامهم وصور جعجع المرفوعة توحي بأن عين الرمانة توالي القوات. لكن هذا، ودائماً بحسب عزام، غير صحيح. 

***

اندريه صار نجماً إعلامياً يوم 13 نيسان الماضي حين خرج إلى الشاشات ليقول إنه كان مقاتلاً ولا يريد أن يورث أبناءه الثلاثة حرباً. لديه الكثير من الرسائل ضد الحرب. لكن السؤال حول احتمال عودتها يجعله يرتبك وينطلق بعبارات سرعان ما يقطعها: ممنوع ترجع الحرب. ممنوع. لازم كل إنسان.. تعرف شو يعني؟ شو بدي قلّك؟ ممنوع ترجع الحرب. هيدي شغلة.. بدنا جيش لبناني قوي قوي قوي يدعسنا بالصرماية . 
يقول ذلك وقد فتح عينيه على اتساعهما، محدقاً في ابنه الطالب الجامعي الذي يجلس على الأرض مستمعاً إليه، لا يفوت حرفاً مما يقوله. كل ملامح الشاب تدل الى إعجاب فوق العادة بوالده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق