معرض فني في أحد شوارع مانهاتن (تصوير ج. ب.)
الجاز مطر خفيف ينهمر بإيقاع، وبلا توقف.
ساعات مرّت، وهؤلاء الاربعة يعزفونه ويغنونه. لا تغيب الابتسامات عن ملامح جمهورهم الصغير المأخوذ بهم تماماً. عازف الساكسوفون نجم المكان. يرتفع بالموسيقى. يدور بها وتدور به. تطيعه. تذهب معه وتعود. تراقصه بلا غلطة، مع أنه يجازف في ارتجالاته إلى أقصى ما يستطيع.
في شارع أدامز مورغان، في واشنطن، الملهى الليلي يمرح بالموسيقى. الاربعينية البيضاء الممتلئة تتمايل على غناء حبيبها الاسود. نادراً ما تفتح عينيها. الرجل الاسود النحيل بقربها، يؤدي وحده، رقصاً متصلاً سعيداً. أيوب، الصديق اللبناني، يحكي عن هذا الملهى بصفته المكان الذي قرر أن يخرج عبره من إحباطه الأميركي قبل سنوات، ليبدأ من جديد. من الصفر. يخبر عن «مدامز أورغان» محتفلاً بالملهى العتيق، ذي الجدران السوداء الذي علقت عليه أغراض وصور لا تحصى، بلا سياق. أشياء تكاثرت مع تقدم العمر به ومع استمرار وجوده، هكذا، بلا انقطاع، وبإصرار على إبقائه كما هو، كي لا يخسر هويته. يمكن السؤال عن سنواته، وعن كل الموسيقى التي عزفت فيه. لكن، من يحتاج إلى مثل هذه الأسئلة الآن.. والجاز يطفو في هذا الليل كأحلى، أحلى، ما صُنع في أميركا.
هذه «واشنطن دي سي». صانعة القرار. العاصمة الباردة المملة على ما تُختصر. ليست كذلك. تتلاصق في المدينة المقاهي والملاهي والمطاعم، ملآنة بالناس، جامعيين وغيرهم، ممن يعيشون في مدينة عصرية، بلا ناطحات سحاب، وبأبنية جلها قديم ذات واجهــات مـلونة لا ترتفع عن بضع طبقات. وأرصفة وطرق من الصعب أن يشعر الماشون فيها بضجر، وهم يتفرجون على مدينة بجمال بلا تبجح. فيها البيت الابيض والكونغرس والخارجية والبنتاغون وسفارات العالم وعشرات النصب العملاقة والصغيرة، وفيها ضفة نهر ومحيط جامعة وفيها موسم تفتح زهر شجر الكرز الذي أهدته اليابان لأميركا في أوائل القرن الماضي، وهناك مئات الآلاف ممن يأتون في نيسان من كل عام للانخراط في مهرجان تفتح الزهور. وفيها نحن، الآتين من بضعة بلاد عربــية، نجول في أحد مشمس في واشنطن مع مرشدة سياحية مسنة تأخذنا في رحلة حول معالم المدينة السياحية، ونشاركها أسفها العميق لأن الزهر لم يتفتح كما يجب على كل الاشجار هذه السنة بسبب المناخ.
نجاملها، ولا نفهم ما المؤسف في عدم تفتح كرز واشنطن ما دام فيها، تعويضاً، مثل هذا الهدوء وهذا الشجر. نصل في جولتنا إلى البيت الأبيض وننزل لنلتقط صوراً لنا وهو خلفنا، ولا نخيب امل الدليلة اللطيفة إذ نؤكد لها أن الانطباع الاول عنه هو أنه اصغر مما توقعنا، فهذا ما كانت تنتظر منا أن نفاجأ به.
آلاف الصور تلتقط عند السياج. يبدو أنه متروك هكذا، بلا حراسة ولا رقابة. وهمٌ لا يُركن إليه، والأمن هوس أميركي حقيقي، تدل عليه تلك الصفوف التي لا تنتهي في المطارات من المسافرين المسكوبين من كل العالم عند نقاط التفتيش. مسافرون يتعاطون بآلية جنود مدربين مع الاجراءات الامنية الواحدة، خالعين أحذيتهم وأحزمتهم، وواضعين كل ما معهم في العلب البلاستيكية التي تختلف شكلا وحجما بين مطار ومطار، بعدما يخرجون منها أجهزة الكومبيوتر المحمولة. وبينما تمر العلب في آلات الكشف، يمضون هم، واحداً بعد الآخر، عبر آلات المسح الخاصة بهم، ثم رافعين سواعدهم عالياً لإعادة تفتشيهم بتلك الاجهزة الالكترونية التي يحملها عناصر مهذبون صارمون تمشي على بعد سنتيمترات من أجسادهم، ليعود الواحد منهم إلى حذائه وحزامه وعلب أغراضه، في مشهد رتيب يتكرر مئات آلاف المرات كل يوم، كئيب بما لا يقاس، حيث انتقال البشر، واختلاطهم يبدأ وينتهي بالريبة.
الامن يظل مرتاباً، والسياح، إن من حول العالم، أو من قلب الولايات المتحدة، سواءٌ في خسارة الكثير من معنى السياحة، وبراءتها ربما، إذ يخضـعون لإجراءاته التي لــها ما يبررها ولا يبرر ثقل وطأتها. يصير الدخول إلى مبنى الكابيتول حيث الكونغرس لا يستحق كل هذا العناء بالنسبة للعرب. غير أنه ليس كذلك بالنسبة للتلامذة الاميركيين الذين يموجون في أفواج لا يهدأ حراكها. يمشون في مجموعات تشبه المحفوظ عنهم: خليط عرقي هو فخر أميركا الاول بنفسها. تُنحت المواطنة والوطنية، في عقلوهم نحتاً. عرب وأميركيونواشنطن بداية بديهية للبرنامج الأميركي. هذه المجموعة العربية ستترافق لأسبوعين: أستاذ جامعي عراقي وصحافيون وصحافيات، تونسية وجزائري وفلسطينيان جاءا من غزة، ويمني ولبنانيان، الزميلة كرمى خياط من «تلفزيون الجديد»، ومن «السفير» كاتب هذه السطور. دعتنا وزارة الخارجية الاميركية لتعرّفنا على كيفية «صناعة القرار الخارجي في أميركا». العنوان طموح. والمتفائل جداً هو الذي يظن أنه في أسبوعين سيعرف كيف يتخذ الاميركيون قراراتهم في ما يخص بقية الكوكب. كما أن تلقين الاميركيين للعرب خطاباً جاهزاً ومحفوظاً عن أميركا الديموقراطية الاخلاقية المتعددة، هو تلقين من غير منفعة. الغاية الاميركية المعلنة من البرنامج، وهو واحد من عشرات سنوية، هي الدفع باتجاه فهم أفضل لسياسة اميركا. «ليس احترامها ولا الوقوع في حبها» على ما قيل لنا. فقط فهمها. هذا الفهم، أو محاولته على الأقل، دونه ما سيتفق عليه معظم من سنلتقيهم من اميركيين: صناعة القرار الخارجي أمر «معقد». هذا ليس جديداً. لا يوجد سياسة خارجية سهلة أصلاً. وكي نفكك تعقيدات هذه الصناعة، كان علينا أن نصغي إلى الاميركيين، من موظفين حكوميين وعسكريين وأكاديميين وغيرهم ممن يعملون في مؤسسات أبحاث متخصصة تستشار حين اتخاذ قرارات منها، مثلاً، غزو العراق. نسمع ونناقش.
على أن أميركا المعتدّة بنفسها، لديها ما يكفي من الثقة بأنها ستترك انطباعاً جيداً عنها لدى كل من يزورها. هذا على الارجح، هدف غير معلن لمثل هذه البرامج. أما «تجـنيد العملاء»، فذاك شأن يختلط فيه المزاح بالبوليسية الرديئة، بالكثير من الرهاب من اي شيء يأتينا منها، حتى الذي نبحث عنه فيها، وليس مما توضبه لترسله إلينا.
الاميركيون لم يشترطوا علينا الامتناع عن نشر مضمون اللقاءات التي نظموها لنا في الاعلام. غير أنهم اشترطوا أن نعلن عن رغبتنا بهذا الخصوص مع كل لقاء، كي يتخذوا المناسب. ومع أن شرطاً كهذا من المفترض أن يريحهم، ظل معظم من قابلناهم على حذر دبلوماسي فائق، مبرهنين عن القدرة التي لا تصدق على التزام عبارات مدروسة، لا تحيد عما يبدو نصاً مكتوباً ومحفوظاً، بخاصة الموظفين منهم، في الجيش أو في الخارجية أو في بعثة الولايات المتحدة في الامم المتحدة. حذرٌ ليس جديداً عليها، لكنه يظل أحد مفارقات هذه الديموقراطية.
من البداية، كنا فريقاً ضيفاً في وجه فريق مضيف. فريق عربي (على الرغم من أن التسمية الرسمية للبرنامج تخصص ضيوفاً من «الشرق الادنى وشمال أفريقيا») وفريق أميركي يتبدل بتبدل المواعيد. في الخارجية الاميركية يستقبلنا وجه فتي ومبتسم لشابة تتحدث العربية الفصحى بطلاقة. «إيريكا» ليست من جذور عربية بل إيطالية. اعتناؤها بنا، في الساعتين المقبلتين، سيكون تدريباً لها، هي التي في طريقها إلى مهمتها في بعثة دبلوماسية في بلد عربي.
من بين كل اللقاءات، كانت «الخارجية» هي الطاولة الافضل لطرح الهواجس العربية. الفريق العـربي لا يلعب بالضرورة لعبة جماعية. الزميل اليمني غادر بلاده الضاجة بالاعتصامات، وهو برهن منذ الساعات الأولى عن وطنية يمنية شديدة، تكاد لا ترى جمهورية أخرى تحت الشمس غير جمهورية اليمن السعيد.
الاكاديمي العراقي لديه أسئلته العراقية بدوره. كرمى خياط لديها مجموعة من الأسئلة التي لن تكل عن ملاحقة الاميركيين بها حيث التقتهم، تتمحور بالطــبع حـول الصراع العربي الاسرائيلي والانحياز الاميركي الدائم والمتواصل لإسرائيل، تواجه به كرمى موظف الخارجية الكبير بلا أي تنميق. السؤال البديهي نفسه، سيُطرح لفهم سببه، أخلاقياً وبراغماتياً وحتى بحثاً عن مصلحة اميركا نفسها، أو لمجرد فهم هذه العلاقة السيامية بين أميركا وإسرائيل، ولا جدوى. لا في الخارجية ولا في غيرها.
الزميلان الفلسطينيان لا يحتاجان إلى جهد يذكر لمواجهة الاميركيين بما تفعله إسرائيل. يمكن لأحمد أن يخبر عن مشاق خروجه من غزة عن طريق المعابر الاسرائيلية وربط هذا الخروج ببديهيات الحقوق. ويمكن للثاني أن يدعمه بأن يكرر مرة بعد مرة ذاك الخطاب الواضح المباشر والصريح والمطلوب دائماً، والذي يؤكد على الحق الفلسطيني ويؤكد على الجريمة الاسرائيلية المتواصلة.
لا جواب عن السؤال الإسرائيلي الا ذاك الذي يبدو فيه الاميركي مضطراً إلى الدفاع. الاجابة الغالبة هي هذه: قوة aipac (ايباك) اللوبي الاميركي الداعم لإسرائيل الذي قد يكون حجمه لا يقاس بالنسبة إلى مجموعات الضغط الاقتصادية الأخرى، لكنه يعرف كيف يجعل أعضاء الكونغرس، نواباً وشيوخاً، إلى جانبه، عبر ذاك الدعم اللامحدود لهم لإيصالهم إلى مقاعدهم على أن تكون أصواتهم في صالح اسرائيل حين تحتاج إلى أصواتـهم. معظم هؤلاء لا يكترثون بالسياسة الخارجية بل لا يعلمون عنها أصلاً. ماذا ايضاً؟ لا بد أن لإسرائيل، شبه الولاية الاميركية، حاجة هي أبعد من مجموعة الضغط هذه. أميركا ليست على هذه الدرجة من البساطة. على الاقل لم تكن كذلك يوم كانت اسرائيل تؤدي دورها على أكمل وجه أيام الحرب الباردة، وما زالت. هذا جدال مختلف.
لم يلتق العرب والاميركيون لمرة في الموضوع الاسرائيلي. هم يطلقون عباراتهم القصيرة المبهمة في الغالب، والتي تركز على تشديد أميركا على العملية السلمية، ونحن نلقي بكل حججنا من السياسية إلى الإنسانية البحتة، التي فيها ما درجت اسرائيل على القيام به، أي قتل الاطفال، في لبنان كما في فلسطين. هم يصغون. وينتهي الوقت بلا التقاء. «إيريكا» التي حرصت على الا نبقي أي اجهزة تسجيل أو تصوير معنا في اللقاء في الخارجية، تعلن أن الوقت انتهى، في خضم نقاش انسقنا، نحن العرب، إليه مهاجمين، ليس لأن الذي في وجوهنا يملك حلولاً، بل لأن لدينا كلاماً كثيراً وها نحن نريد أن نقول كل ما لدينا. الشابان الفلسطينيان لديهما أرشيف كامل عن سياسة الانحياز الاميركي وانعكاساته على المنطقة. و«إيريكا» ستؤكد أن «أهلاً وسهلاً بكم»، لكن الوقت تقريباً انتهى.
الاميركيون عناهم أن يضيئوا على حراك خارجي يتخطى السياسة والحروب إلى الجوانب الإنسانية. نحن نصغي، في المقابل، لكننا لا نهتم. أميركا ليست الام تيريزا. هذا درسها الاول للعالم. النقاش يبدأ بعد هذه النقطة. لن نصل إلى نتيجة، غير أن ما باليد هو التذكير بأولويات الدول العربية، التي يرتفع منسوب اعجاب الاميركيين بشعوبها في هذه الايام، وهم يتابعون قيامها في بلد تلو الآخر. ولا نجد بينــهم من يحاول الإيحاء بأن لدولته يداً ما فيه. يسألوننا عن مصر وتونس وسوريا واليمن والبحرين وليبيا. عثمان، الزميل الجزائري، يحكي عن تجربته في تونس هو الذي غطى الثورة هناك. يدلي بتحليلات متماسكة، بلا عواطف ولا شعارات. يصغون باهتمام شديد. الحراك العربي، بعد تلك العقود العجاف، يبدو، على قسوته وصعوبته، وبديهية مطالبه مقارنة بالغرب، مدعاة لفخر الذين اختصروا ظلماً بأنهم لا يجيدون سوى تخطيط وتنفيذ يوم سئ الذكر، كيوم 11 أيلول. بنتاغونفي «البنتاغون»، وقبل اسبوعين تقريباً على اعلان الرئيس الاميركي باراك اوباما عن قتل اسامة بن لادن، تتكثف مشاعر الموظفة الأميركية فيه، كذلك تتكثف المشاعر العربية. هي، دون غيرها من الجنود الذين يقدمون الشروحات لزائرين آخرين عما حدث يومها، تشرح لذوي الجلد العربي هؤلاء، ما الذي فعله ابن جلدتهم، وصحبه، في ذاك اليوم. نتفــرج كغــيرنا، ونكون كاذبين إذا تبرأنا تماماً من «11 ايلول». أن تكون عربياً في أميركا، فهذا ليس شعوراً. هذه حقيقة تلازم الواحد دائماً، وتتجلى في تلك الاماكن الحساسة، كالمطارات والبنـتاغون، وغيرها حيث سيظل يشعر أنه هو، دون غيره، المشبوه به.
في البنتاغون، يحكي الضباط عن مهام للقوات المسلحة الاميركية في نــشر الديــموقراطية أو في العمل الإنساني. وما لم يكن مقنعاً في الخارجية لن يكون مقنعاً في هذا المبنى المخمس الاضلاع. هنا أيضاً، يضطر الامــيركيون إلى الدفاع عما يقومون به خارج حدود ولاياتهم المتحدة.
لا إجابة عن السؤال المقابل، عما كانت تفعله الولايات المتحدة الاميركية في كل تلك البلاد المكتوب اسمها على قاعدة نصب لا شك اننا رأيناه لمرة واحدة على الاقل في حياتنا على الشاشة. نصب لجنود يجهدون للحفاظ على الراية الاميركية مرفوعة. على قاعدته نقرأ اسماء البلاد التي كان الجيش الاميركي فيها. لبنان، ذو المساحة والحجم اللذان يكادان لا يؤخذ بهما جدياً، يتكرر مرتين على الحجر الاسود اللامع لهذه القاعدة. كذلك كل بلاد حروب اميركا الاخرى. المخيف أن معظم قاعدة النصب العملاق، ما زالت خالية. العربي منا الذي ورد اسم بلده على القاعدة، يشير إلى الاسم بملامح من يستفهم مستغرباً لتلتقط له الصورة.
البقية تتابع التقاط الصور، للذكرى، حيث الخلفية دائماً أكثر أهمية بكثير من الملامح التي نلجأ إليها من دون ارداتنا، وفي ظننا أننا هكذا سنكون ملائمين للصور.
واشنطن ستكون فرصة للقاء أصدقاء لبنانيين كثر. على شرفة الملهى الليلي، وحول طاولة خشبية، يحتفل اللبنانيون المقيمون بضيفيهما الزائرين. يمشي الكلام سهلا بين وفاء وفادي وحسين ورانية ورائد والزائرين.. ولا ينتهي. واشنطن في هذه اللحظة من الليل، تخلط بين مدينتين وبين عالمين. فادي لا يقارن. يبدو من القلة التي تجد ما تريد حيث حلّت. هكذا، يستطيع أن يسخر، بلسانه السليط، من «الاماكن السياحية التي أخذوكم إليها»، ويمكنه في الآن نفسه، ان يشرح عن روائي اسود من واشنطن، وعن بعض من تاريخ المدينة، وعن الجـاز بالطبع. لوهلة، يبدو غريباً كم أن ابن صيـدا منتم إلى هذا المكان البعيد عنه بكل المقاييس. ويبدو ابن مدينة يحبها ويعيشها ويصر على أننا لم نتعرف عليها بعد، ولا بد لنا أن نمدد بقاءنا في الولايات المتحدة كي نعود لنمضي بضعة ايام اخرى في واشنطن، لنجول في شوارعها ونجرب مطاعمها وملاهي الموسيقى فيها. فادي، من حيث لا يدري، يبدو مدينياً أميركياً، مع أنه مسيّس حتى أطراف أنامله. حتى أرنبة أنفه العربي العنيد.
من واشنطن، ستستقل المجموعة العربية الصغيرة باصاً ينقلها إلى نيويورك. تكون بعد ايام واشنطن، كسرت الكلفة بينها بجهد محمد، المترجم الاميركي المرافق من اصل اردني. الاربعيني الذي رسمت أميركا ابتسامة عريضة على محياه، لا يكف عن الغناء، وعن تحفيز الآخرين عليه. هكذا، وطوال خمس ساعات بين واشنطن ونيويورك، سيغني العرب أغانيهم المصرية واللبنانية والعراقية، عابرين أكثر من ولاية، متخففين من اجراءات أخرى، في مطار آخر، حيث من المستحيل إلا ترد صورة البرجين، والطائرتان ترتطمان بهما، واحدة بعد الاخرى.
نصلها ليلاً، هذه المدينة.
New York, New York
من لحظاتها الأولى ليلاً، من العبور إليها في منتصف نفق، نعلم أن خمسة أيام لن تكون كافية لنيويورك. كيف ما التفتنا، رأينا تلك المجموعة المتراصة من الناطحات غير المستوية لا طولاً ولا عرضاً ولا شكلاً، تشكل في مجموعها جبل بابل العظيم هذ، المتجه بإصرار صوب السماء. ما لن نراهما، هما ما كانا أعلى بكثير من كل هذه الأبنية العملاقة.
لنيويورك رهبة تسبقها. رهبة شوارعها المكتظة و«تاكسياتها» المتزاحمة ابداً على أحقية المرور، تتنافس على اطلاق الابواق كما لو أنها في بيروت. رهبة أنها مدينة المدن. خلاصة فردية المرء، وخلاصة كهف وحشته المخيف. نيويورك التي ندخل إليها آمنين لأن تفاصيل زيارتنا إليها ليست متروكة للصدف، وأننا لسنا مضطرين لأن نتدبر أمر أنفسنا فيها.
نصل الفندق بعد يوم وليل طويلين. الغرفة حديثة، على العكس من فندق واشنطن التاريخي يكاد السرير فيه يحتاج إلى سلم للوصول إليه. الجدار الزجاجي يطل على ورشة بناء عملاقة. الآلات تضج، للغرابة، في الحادية عشرة ليلاً. إذا كان الامر كذلك، فلا شك أن الاقامة هنا ستكون مزعجة. على أن الوقت قليل، وينبغي أن نستغله. هكذا ننزل لنمشي، وأول ما نلتقي به، على بعد شارع من الفندق، جدارية من معدن تروي بطولات رجالات الاطفاء في 11 ايلول. جدارية على بعد أمتار من الورشة التي يلتقط سياح الصور بجانب سياجها. الفندق، إذاً، يطل على الـ«غراوند زيرو». هنا كان البرجان. كانا يقفان بين النافذة وبين مجموعة الناطحات التي بعضها من زجاج وبعضها الآخر من حجر. هكذا إذاً. سنمضي ايامنا أقرب ما يكون إلى قلب حدث نيويورك الذي من الواضح أن لا نيويورك ولا أميركا مستعدتان لنسيانه، بدليل هذا الحج السياحي الذي سيستـمر خلال أيامنا فيها، والتي لو شاءت الصدف أن تدفع في الزمن قليلاً الى ما بعد الاعلان عن قتل بن لادن، لرأينا باراك اوباما يحتفل بنصره هنـا، في المساحة التي تذكرها اعلام العالم كله، وراح يبث الصور منها.
غير أن نيويورك تخطت 11 ايلول، يقول نبيل، الصديق اللبناني. تخطت وليس بالضرورة نسيت يوم القيامة فيها. نيويورك باتت في مكان آخر غير الغرواند زيرو الذي يرتفع فيه حتى الآن مبنيان من أصل المخطط المعد له.
هنا، في البرد المقبول، المشي ادمان لا بد منه لكي يقول المرء إنه زارها يوماً. المشي لساعات، حيث الارصفة وواجهات المحال تجربة، وحيث عبور جسر بروكلين من مانهاتن إلى بروكلين، مع آلاف السياح، تجربة. وحيث تايمز سكوير، التي تمتد على ابنيتها تلك الشاشات التي تبتلع المستهلكين، وترميهم، فرحين، في قلب الاعلانات، حيث اللقاء السعيد للجزائري بالجزائري، أو المقطوع بسرعة للبناني بالبائع الاسرائيلي ما ان يكشف هذا عن هويته جذلان بلا مبرر بـ«جيرانه»، حيث نصب عازف بيانو في هارلم. هنا، وهنا فقط، يبدو المكان اختباراً متواصلاً للمشاعر وللأفكار.
اسفل هذه الناطحات، لا مفرّ من الإحساس بضآلة الحجم، وبألم العنق، لمن يظل مذهولاً، ملتفتاً إلى أعلى. سحر نيويورك الحقيقي هو في مستوى النظر. لا مدينة أخرى في أميركا ربما، على هذا القدر من الانهاك. تكاد شوراع بيروت تكون افضل حالاً من شوارعها ومن ارصفتها، هي التي لا تتوقف أعمال الصيانة فيها. هذه مدينة يحتاج الخروج منها، كما الدخول إليها، في اوقات محددة من اليوم، إلى ساعات. مواقف السيارات تعلن عن نفسها كأنها مسارح، وأبناؤها يفضلون ان يكونوا بلا سيارات. لا تبدو أنها مهتمة بسياحها، ومع ذلك، فهم فيها بأعداد لا تحصى. تائهون فيها. وليس ما يشي بصفتهم هذه إلا إذا تلفتوا متفرجين. ليست اللغـة عائقاً دون أن تكون نيويوركياً. لغات العالم كله تسمع هنا. ومن يُجد التواصل مع سائقي سيارات الاجرة، فسيجيد التواصل مع أي كان. وإذا كان نادراً ما تلتقي سائقاً من البلد نفسه مرتين، فمن المستحيل ألا تكون الرحلة في السيارة الصفراء مناسبة لحوار خفيف يبدأ بالهند ويمر ببلاد العرب ويصل إلى أميركا. حوار قد يفتحه السائق نفسه حين يرحب بزبائنه بـ«السلام عليكم» التي لا يعرف غيرها، هو الهـندي المستعد، كواحدة من خدمات سيارة الاجرة التي تفوح فيها رائحة الوقود غير المحروق، لأن يؤدي أي عبارة عربية او انكليزية تقولها له بلحن هندي «حزين»، لا تملك إلا أن تمضي طوال الطريق ضاحكاً له.
بعد قليل من نيويورك تصير الناطحات مشهدا يلحقك حيث تحل، وهو مشهد لا يثير إلا الضجر. حياة المدينة تجري أسفل هذه الناطحات. تنوعنا، نحن البشر، يبلغ هنا أقصاه. تكاد البشرية كلها، بكل افكارها ومعتقداتها واحلامها وكوابيسها، موجودة في المدينة التي تعيش تناقضاتها كلها، هي المتسامحة إلى حد غير مسبوق، وهي القاسية بشدة. هي المزدحمة بالحياة، وهي التي يمكن للواحد أن يعيش ويموت فيها بلا أن يكون له صديق. هي التي يأتيها حسين بالباص من واشنطن، من أجل مطعم للسمك بعينه ينتظر زبائنه ساعات حتى يأتي موعدهم، وهي التي تدفع الزميل الفلسطيني الى المقارنة بينها وبين غزة، وهو يشاهد العرض المسرحي الراقص في برودواي والقطاع في أصعب حصاره، وفي اصعب حزنه.
هي التي لا تبدو بعيدة، ونحن نمشي في مطرها بفرح، وهي التي نكاد نفهم مشاعر التماثيل في المعرض الفني على رصيف عريض قريب من مبنى الامم المتحدة، حيث التماثيل البنية تواجه التماثيل الفضية، بتحد حيناً وبلا فهم حيناً آخر، وبيأس في أحيان كثيرة، من فهم هذه الحضارة التي يمكنها ألا تبعث في النفس إلا الوحشة العميقة بالقدر نفسه الذي تبعث على عقيدة اعتناق المتعة والمرح اسلوب حياة.
في نيويورك، تعقد لقاءات على هامش الوقت المفتوح للسياحة، تبدو ثانوية. نجول في المبنى المرهق للأمم المتحدة، كما نعقد لقاء في بعثة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، لا يبقى منه الكثير في الذاكرة غير ما بتنا نعرفه عن التزام أميركا بحليفها.
في الشوارع، في ليل المدينة وفي نهارها، تلتبس التجربة بالتباس المشهد: هل رأينا هذا من قبل؟ هل نيويورك التي في السينما عالقة في الذهن إلى هذه الدرجة؟
هل لهذه المدينة بحق، كل هذا السحر الغرائبي؟ أم هي المبالغة التي يقع فيها الغريب؟ فلوريدافجراً، نصطف في المطار. كالماشين في نومهم، يمشي الناس هنا، يخلعون أحذيتهم تباعاً، لا أحد منهم يفكر بما يفعل. الطائرة ستحمل العرب إلى الولاية الثالثة، فلوريدا. تامبا التي تقع على الخليج تبدو مكاناً مثالياً لكل ما هو نقيض لنيويورك. فيها سيختتم البرنامج بجولة على بضع مؤسسات اعلامية، منها اذاعة لا تبغي الربح وممولة من المجتمع المحلي. هي تهتم بأخبار العالم كله، وبموسيقاه. بينما نجول في أرجائها، سنسمع موسيقى مارسيل خليفة. يتبين انها ترافق برنامجاً اخبارياً عن ليبيا. يبدو الصحافي الاميركي منفتحاً على قضايانا ومتفهماً لنا، ويفرّق بين الشعب وبين ما تريده الحكومة. في لقاء آخر في مكان آخر، يسوق المدوّن حججاً غريبة في دفاعه عن العلاقة بين اسرائيل وأميركا: يعيدها حيناً الى تلك الجذور الدينية وحيناً آخر إلى ما ليس لنا ذنب فيه، وهو صورتنا الشريرة في السينما الاميركية، ليصل، بوقاحة إلى القول إن الاسرائيليين، على عكسنا، لا يفجرون الطائرات، مؤكدا، في تعميماته أن هذا ليس رأيه، بل ينقل لنا حقيقة موجودة.. ويقرر، فجأة، أن علينا أن نكون أكثر ديموقراطية لكي تشعر أميركا أننا نشبهها، مما يجعل متابعة الحوار معه اضاعة للوقت.
يحبطنا اللقاء ونحن على أبواب اختتام رحلتنا. نحمل إحباطنا إلى آخر لقاءاتنا مع صف جامعي في العلوم السياسية. هناك، تنقلب الصورة ونحن نجيب عن اسئلتهم العديدة حول ما يحدث في العالم العربي. نقدم شروحاً وافية لأسئلة دقيقة من شابات وشبان مطلعين على ما يحدث ومهتمين بدور المواقع الإلكترونية الاجتماعية. وحين تسألهم كرمى عن اهتمامهم كأميركيين بما يدور خارج بلدهم، يضحكون بما يشبه الخجل، ويعترفون بما نتهمهم به طوال الوقت: الاميركيون لا يكترثون بما يجري خارج حدودهم. يطرحون عشرات الأسباب، منها ثقتهم بحكومتهم إذ تأخذ على عاتقها هذا الشأن المعقد بالنسبة إليهم.
مع ذلك، فإن اثنتين منهما تشرحان عن اهتمامهما بالقضية الفلسطينية. وكثر منهم يوقفون ضيوفهم بعد انتهاء الصف لمزيد من الاستفسار.
في اليوم ما قبل الاخير، يجول اليخت بالعرب في بحر رقيق وصاف، فيغنون ويمرحون ويبتسم الزميلان الفلسطينيان قبل ان يكتشفا ان بعض التفاصيل تغيرت في رحلة عودتهما، بسبب اجراءات الامن عند المعابر الاسرائيلية فبات عليهما ان يمضيا يومين اضــافيين في الاردن، قبل ان يعبرا من الضفة إلى غزة. الحياة ليست سهلة عموماً، وليست سهلة على الفلسطيني بخاصة.
صباح اليوم الأخير، يأخذنا ستيف، السائق الاميركي، إلى المطار. يتفرق العرب كل إلى بلده. وفي ما يشبه الوداع، يقول لنا ستيف إنه تعرف على كل الجنسيات في خلال عمله. وقد بات على يقين بأن كل الشعوب متشابهة وكلها لطيفة ومحبة. وأن الحكومات هي التي تخترع الخلافات بين الناس.
«رافقتم السلامة» يختم، في ما يشبه رسالة أخيرة غير رسمية من الدولة التي استضافتنا لاسبوعين لكي نفهمها، فقلّ جهلنا بها بعض الشيء، وازدادت، بالتالي تعقيداً.
نسلّم الحقائب، ونمضي إلى التفتيش.
الجاز مطر خفيف ينهمر بإيقاع، وبلا توقف.
ساعات مرّت، وهؤلاء الاربعة يعزفونه ويغنونه. لا تغيب الابتسامات عن ملامح جمهورهم الصغير المأخوذ بهم تماماً. عازف الساكسوفون نجم المكان. يرتفع بالموسيقى. يدور بها وتدور به. تطيعه. تذهب معه وتعود. تراقصه بلا غلطة، مع أنه يجازف في ارتجالاته إلى أقصى ما يستطيع.
في شارع أدامز مورغان، في واشنطن، الملهى الليلي يمرح بالموسيقى. الاربعينية البيضاء الممتلئة تتمايل على غناء حبيبها الاسود. نادراً ما تفتح عينيها. الرجل الاسود النحيل بقربها، يؤدي وحده، رقصاً متصلاً سعيداً. أيوب، الصديق اللبناني، يحكي عن هذا الملهى بصفته المكان الذي قرر أن يخرج عبره من إحباطه الأميركي قبل سنوات، ليبدأ من جديد. من الصفر. يخبر عن «مدامز أورغان» محتفلاً بالملهى العتيق، ذي الجدران السوداء الذي علقت عليه أغراض وصور لا تحصى، بلا سياق. أشياء تكاثرت مع تقدم العمر به ومع استمرار وجوده، هكذا، بلا انقطاع، وبإصرار على إبقائه كما هو، كي لا يخسر هويته. يمكن السؤال عن سنواته، وعن كل الموسيقى التي عزفت فيه. لكن، من يحتاج إلى مثل هذه الأسئلة الآن.. والجاز يطفو في هذا الليل كأحلى، أحلى، ما صُنع في أميركا.
هذه «واشنطن دي سي». صانعة القرار. العاصمة الباردة المملة على ما تُختصر. ليست كذلك. تتلاصق في المدينة المقاهي والملاهي والمطاعم، ملآنة بالناس، جامعيين وغيرهم، ممن يعيشون في مدينة عصرية، بلا ناطحات سحاب، وبأبنية جلها قديم ذات واجهــات مـلونة لا ترتفع عن بضع طبقات. وأرصفة وطرق من الصعب أن يشعر الماشون فيها بضجر، وهم يتفرجون على مدينة بجمال بلا تبجح. فيها البيت الابيض والكونغرس والخارجية والبنتاغون وسفارات العالم وعشرات النصب العملاقة والصغيرة، وفيها ضفة نهر ومحيط جامعة وفيها موسم تفتح زهر شجر الكرز الذي أهدته اليابان لأميركا في أوائل القرن الماضي، وهناك مئات الآلاف ممن يأتون في نيسان من كل عام للانخراط في مهرجان تفتح الزهور. وفيها نحن، الآتين من بضعة بلاد عربــية، نجول في أحد مشمس في واشنطن مع مرشدة سياحية مسنة تأخذنا في رحلة حول معالم المدينة السياحية، ونشاركها أسفها العميق لأن الزهر لم يتفتح كما يجب على كل الاشجار هذه السنة بسبب المناخ.
نجاملها، ولا نفهم ما المؤسف في عدم تفتح كرز واشنطن ما دام فيها، تعويضاً، مثل هذا الهدوء وهذا الشجر. نصل في جولتنا إلى البيت الأبيض وننزل لنلتقط صوراً لنا وهو خلفنا، ولا نخيب امل الدليلة اللطيفة إذ نؤكد لها أن الانطباع الاول عنه هو أنه اصغر مما توقعنا، فهذا ما كانت تنتظر منا أن نفاجأ به.
آلاف الصور تلتقط عند السياج. يبدو أنه متروك هكذا، بلا حراسة ولا رقابة. وهمٌ لا يُركن إليه، والأمن هوس أميركي حقيقي، تدل عليه تلك الصفوف التي لا تنتهي في المطارات من المسافرين المسكوبين من كل العالم عند نقاط التفتيش. مسافرون يتعاطون بآلية جنود مدربين مع الاجراءات الامنية الواحدة، خالعين أحذيتهم وأحزمتهم، وواضعين كل ما معهم في العلب البلاستيكية التي تختلف شكلا وحجما بين مطار ومطار، بعدما يخرجون منها أجهزة الكومبيوتر المحمولة. وبينما تمر العلب في آلات الكشف، يمضون هم، واحداً بعد الآخر، عبر آلات المسح الخاصة بهم، ثم رافعين سواعدهم عالياً لإعادة تفتشيهم بتلك الاجهزة الالكترونية التي يحملها عناصر مهذبون صارمون تمشي على بعد سنتيمترات من أجسادهم، ليعود الواحد منهم إلى حذائه وحزامه وعلب أغراضه، في مشهد رتيب يتكرر مئات آلاف المرات كل يوم، كئيب بما لا يقاس، حيث انتقال البشر، واختلاطهم يبدأ وينتهي بالريبة.
الامن يظل مرتاباً، والسياح، إن من حول العالم، أو من قلب الولايات المتحدة، سواءٌ في خسارة الكثير من معنى السياحة، وبراءتها ربما، إذ يخضـعون لإجراءاته التي لــها ما يبررها ولا يبرر ثقل وطأتها. يصير الدخول إلى مبنى الكابيتول حيث الكونغرس لا يستحق كل هذا العناء بالنسبة للعرب. غير أنه ليس كذلك بالنسبة للتلامذة الاميركيين الذين يموجون في أفواج لا يهدأ حراكها. يمشون في مجموعات تشبه المحفوظ عنهم: خليط عرقي هو فخر أميركا الاول بنفسها. تُنحت المواطنة والوطنية، في عقلوهم نحتاً. عرب وأميركيونواشنطن بداية بديهية للبرنامج الأميركي. هذه المجموعة العربية ستترافق لأسبوعين: أستاذ جامعي عراقي وصحافيون وصحافيات، تونسية وجزائري وفلسطينيان جاءا من غزة، ويمني ولبنانيان، الزميلة كرمى خياط من «تلفزيون الجديد»، ومن «السفير» كاتب هذه السطور. دعتنا وزارة الخارجية الاميركية لتعرّفنا على كيفية «صناعة القرار الخارجي في أميركا». العنوان طموح. والمتفائل جداً هو الذي يظن أنه في أسبوعين سيعرف كيف يتخذ الاميركيون قراراتهم في ما يخص بقية الكوكب. كما أن تلقين الاميركيين للعرب خطاباً جاهزاً ومحفوظاً عن أميركا الديموقراطية الاخلاقية المتعددة، هو تلقين من غير منفعة. الغاية الاميركية المعلنة من البرنامج، وهو واحد من عشرات سنوية، هي الدفع باتجاه فهم أفضل لسياسة اميركا. «ليس احترامها ولا الوقوع في حبها» على ما قيل لنا. فقط فهمها. هذا الفهم، أو محاولته على الأقل، دونه ما سيتفق عليه معظم من سنلتقيهم من اميركيين: صناعة القرار الخارجي أمر «معقد». هذا ليس جديداً. لا يوجد سياسة خارجية سهلة أصلاً. وكي نفكك تعقيدات هذه الصناعة، كان علينا أن نصغي إلى الاميركيين، من موظفين حكوميين وعسكريين وأكاديميين وغيرهم ممن يعملون في مؤسسات أبحاث متخصصة تستشار حين اتخاذ قرارات منها، مثلاً، غزو العراق. نسمع ونناقش.
على أن أميركا المعتدّة بنفسها، لديها ما يكفي من الثقة بأنها ستترك انطباعاً جيداً عنها لدى كل من يزورها. هذا على الارجح، هدف غير معلن لمثل هذه البرامج. أما «تجـنيد العملاء»، فذاك شأن يختلط فيه المزاح بالبوليسية الرديئة، بالكثير من الرهاب من اي شيء يأتينا منها، حتى الذي نبحث عنه فيها، وليس مما توضبه لترسله إلينا.
الاميركيون لم يشترطوا علينا الامتناع عن نشر مضمون اللقاءات التي نظموها لنا في الاعلام. غير أنهم اشترطوا أن نعلن عن رغبتنا بهذا الخصوص مع كل لقاء، كي يتخذوا المناسب. ومع أن شرطاً كهذا من المفترض أن يريحهم، ظل معظم من قابلناهم على حذر دبلوماسي فائق، مبرهنين عن القدرة التي لا تصدق على التزام عبارات مدروسة، لا تحيد عما يبدو نصاً مكتوباً ومحفوظاً، بخاصة الموظفين منهم، في الجيش أو في الخارجية أو في بعثة الولايات المتحدة في الامم المتحدة. حذرٌ ليس جديداً عليها، لكنه يظل أحد مفارقات هذه الديموقراطية.
من البداية، كنا فريقاً ضيفاً في وجه فريق مضيف. فريق عربي (على الرغم من أن التسمية الرسمية للبرنامج تخصص ضيوفاً من «الشرق الادنى وشمال أفريقيا») وفريق أميركي يتبدل بتبدل المواعيد. في الخارجية الاميركية يستقبلنا وجه فتي ومبتسم لشابة تتحدث العربية الفصحى بطلاقة. «إيريكا» ليست من جذور عربية بل إيطالية. اعتناؤها بنا، في الساعتين المقبلتين، سيكون تدريباً لها، هي التي في طريقها إلى مهمتها في بعثة دبلوماسية في بلد عربي.
من بين كل اللقاءات، كانت «الخارجية» هي الطاولة الافضل لطرح الهواجس العربية. الفريق العـربي لا يلعب بالضرورة لعبة جماعية. الزميل اليمني غادر بلاده الضاجة بالاعتصامات، وهو برهن منذ الساعات الأولى عن وطنية يمنية شديدة، تكاد لا ترى جمهورية أخرى تحت الشمس غير جمهورية اليمن السعيد.
الاكاديمي العراقي لديه أسئلته العراقية بدوره. كرمى خياط لديها مجموعة من الأسئلة التي لن تكل عن ملاحقة الاميركيين بها حيث التقتهم، تتمحور بالطــبع حـول الصراع العربي الاسرائيلي والانحياز الاميركي الدائم والمتواصل لإسرائيل، تواجه به كرمى موظف الخارجية الكبير بلا أي تنميق. السؤال البديهي نفسه، سيُطرح لفهم سببه، أخلاقياً وبراغماتياً وحتى بحثاً عن مصلحة اميركا نفسها، أو لمجرد فهم هذه العلاقة السيامية بين أميركا وإسرائيل، ولا جدوى. لا في الخارجية ولا في غيرها.
الزميلان الفلسطينيان لا يحتاجان إلى جهد يذكر لمواجهة الاميركيين بما تفعله إسرائيل. يمكن لأحمد أن يخبر عن مشاق خروجه من غزة عن طريق المعابر الاسرائيلية وربط هذا الخروج ببديهيات الحقوق. ويمكن للثاني أن يدعمه بأن يكرر مرة بعد مرة ذاك الخطاب الواضح المباشر والصريح والمطلوب دائماً، والذي يؤكد على الحق الفلسطيني ويؤكد على الجريمة الاسرائيلية المتواصلة.
لا جواب عن السؤال الإسرائيلي الا ذاك الذي يبدو فيه الاميركي مضطراً إلى الدفاع. الاجابة الغالبة هي هذه: قوة aipac (ايباك) اللوبي الاميركي الداعم لإسرائيل الذي قد يكون حجمه لا يقاس بالنسبة إلى مجموعات الضغط الاقتصادية الأخرى، لكنه يعرف كيف يجعل أعضاء الكونغرس، نواباً وشيوخاً، إلى جانبه، عبر ذاك الدعم اللامحدود لهم لإيصالهم إلى مقاعدهم على أن تكون أصواتهم في صالح اسرائيل حين تحتاج إلى أصواتـهم. معظم هؤلاء لا يكترثون بالسياسة الخارجية بل لا يعلمون عنها أصلاً. ماذا ايضاً؟ لا بد أن لإسرائيل، شبه الولاية الاميركية، حاجة هي أبعد من مجموعة الضغط هذه. أميركا ليست على هذه الدرجة من البساطة. على الاقل لم تكن كذلك يوم كانت اسرائيل تؤدي دورها على أكمل وجه أيام الحرب الباردة، وما زالت. هذا جدال مختلف.
لم يلتق العرب والاميركيون لمرة في الموضوع الاسرائيلي. هم يطلقون عباراتهم القصيرة المبهمة في الغالب، والتي تركز على تشديد أميركا على العملية السلمية، ونحن نلقي بكل حججنا من السياسية إلى الإنسانية البحتة، التي فيها ما درجت اسرائيل على القيام به، أي قتل الاطفال، في لبنان كما في فلسطين. هم يصغون. وينتهي الوقت بلا التقاء. «إيريكا» التي حرصت على الا نبقي أي اجهزة تسجيل أو تصوير معنا في اللقاء في الخارجية، تعلن أن الوقت انتهى، في خضم نقاش انسقنا، نحن العرب، إليه مهاجمين، ليس لأن الذي في وجوهنا يملك حلولاً، بل لأن لدينا كلاماً كثيراً وها نحن نريد أن نقول كل ما لدينا. الشابان الفلسطينيان لديهما أرشيف كامل عن سياسة الانحياز الاميركي وانعكاساته على المنطقة. و«إيريكا» ستؤكد أن «أهلاً وسهلاً بكم»، لكن الوقت تقريباً انتهى.
الاميركيون عناهم أن يضيئوا على حراك خارجي يتخطى السياسة والحروب إلى الجوانب الإنسانية. نحن نصغي، في المقابل، لكننا لا نهتم. أميركا ليست الام تيريزا. هذا درسها الاول للعالم. النقاش يبدأ بعد هذه النقطة. لن نصل إلى نتيجة، غير أن ما باليد هو التذكير بأولويات الدول العربية، التي يرتفع منسوب اعجاب الاميركيين بشعوبها في هذه الايام، وهم يتابعون قيامها في بلد تلو الآخر. ولا نجد بينــهم من يحاول الإيحاء بأن لدولته يداً ما فيه. يسألوننا عن مصر وتونس وسوريا واليمن والبحرين وليبيا. عثمان، الزميل الجزائري، يحكي عن تجربته في تونس هو الذي غطى الثورة هناك. يدلي بتحليلات متماسكة، بلا عواطف ولا شعارات. يصغون باهتمام شديد. الحراك العربي، بعد تلك العقود العجاف، يبدو، على قسوته وصعوبته، وبديهية مطالبه مقارنة بالغرب، مدعاة لفخر الذين اختصروا ظلماً بأنهم لا يجيدون سوى تخطيط وتنفيذ يوم سئ الذكر، كيوم 11 أيلول. بنتاغونفي «البنتاغون»، وقبل اسبوعين تقريباً على اعلان الرئيس الاميركي باراك اوباما عن قتل اسامة بن لادن، تتكثف مشاعر الموظفة الأميركية فيه، كذلك تتكثف المشاعر العربية. هي، دون غيرها من الجنود الذين يقدمون الشروحات لزائرين آخرين عما حدث يومها، تشرح لذوي الجلد العربي هؤلاء، ما الذي فعله ابن جلدتهم، وصحبه، في ذاك اليوم. نتفــرج كغــيرنا، ونكون كاذبين إذا تبرأنا تماماً من «11 ايلول». أن تكون عربياً في أميركا، فهذا ليس شعوراً. هذه حقيقة تلازم الواحد دائماً، وتتجلى في تلك الاماكن الحساسة، كالمطارات والبنـتاغون، وغيرها حيث سيظل يشعر أنه هو، دون غيره، المشبوه به.
في البنتاغون، يحكي الضباط عن مهام للقوات المسلحة الاميركية في نــشر الديــموقراطية أو في العمل الإنساني. وما لم يكن مقنعاً في الخارجية لن يكون مقنعاً في هذا المبنى المخمس الاضلاع. هنا أيضاً، يضطر الامــيركيون إلى الدفاع عما يقومون به خارج حدود ولاياتهم المتحدة.
لا إجابة عن السؤال المقابل، عما كانت تفعله الولايات المتحدة الاميركية في كل تلك البلاد المكتوب اسمها على قاعدة نصب لا شك اننا رأيناه لمرة واحدة على الاقل في حياتنا على الشاشة. نصب لجنود يجهدون للحفاظ على الراية الاميركية مرفوعة. على قاعدته نقرأ اسماء البلاد التي كان الجيش الاميركي فيها. لبنان، ذو المساحة والحجم اللذان يكادان لا يؤخذ بهما جدياً، يتكرر مرتين على الحجر الاسود اللامع لهذه القاعدة. كذلك كل بلاد حروب اميركا الاخرى. المخيف أن معظم قاعدة النصب العملاق، ما زالت خالية. العربي منا الذي ورد اسم بلده على القاعدة، يشير إلى الاسم بملامح من يستفهم مستغرباً لتلتقط له الصورة.
البقية تتابع التقاط الصور، للذكرى، حيث الخلفية دائماً أكثر أهمية بكثير من الملامح التي نلجأ إليها من دون ارداتنا، وفي ظننا أننا هكذا سنكون ملائمين للصور.
واشنطن ستكون فرصة للقاء أصدقاء لبنانيين كثر. على شرفة الملهى الليلي، وحول طاولة خشبية، يحتفل اللبنانيون المقيمون بضيفيهما الزائرين. يمشي الكلام سهلا بين وفاء وفادي وحسين ورانية ورائد والزائرين.. ولا ينتهي. واشنطن في هذه اللحظة من الليل، تخلط بين مدينتين وبين عالمين. فادي لا يقارن. يبدو من القلة التي تجد ما تريد حيث حلّت. هكذا، يستطيع أن يسخر، بلسانه السليط، من «الاماكن السياحية التي أخذوكم إليها»، ويمكنه في الآن نفسه، ان يشرح عن روائي اسود من واشنطن، وعن بعض من تاريخ المدينة، وعن الجـاز بالطبع. لوهلة، يبدو غريباً كم أن ابن صيـدا منتم إلى هذا المكان البعيد عنه بكل المقاييس. ويبدو ابن مدينة يحبها ويعيشها ويصر على أننا لم نتعرف عليها بعد، ولا بد لنا أن نمدد بقاءنا في الولايات المتحدة كي نعود لنمضي بضعة ايام اخرى في واشنطن، لنجول في شوارعها ونجرب مطاعمها وملاهي الموسيقى فيها. فادي، من حيث لا يدري، يبدو مدينياً أميركياً، مع أنه مسيّس حتى أطراف أنامله. حتى أرنبة أنفه العربي العنيد.
من واشنطن، ستستقل المجموعة العربية الصغيرة باصاً ينقلها إلى نيويورك. تكون بعد ايام واشنطن، كسرت الكلفة بينها بجهد محمد، المترجم الاميركي المرافق من اصل اردني. الاربعيني الذي رسمت أميركا ابتسامة عريضة على محياه، لا يكف عن الغناء، وعن تحفيز الآخرين عليه. هكذا، وطوال خمس ساعات بين واشنطن ونيويورك، سيغني العرب أغانيهم المصرية واللبنانية والعراقية، عابرين أكثر من ولاية، متخففين من اجراءات أخرى، في مطار آخر، حيث من المستحيل إلا ترد صورة البرجين، والطائرتان ترتطمان بهما، واحدة بعد الاخرى.
نصلها ليلاً، هذه المدينة.
New York, New York
من لحظاتها الأولى ليلاً، من العبور إليها في منتصف نفق، نعلم أن خمسة أيام لن تكون كافية لنيويورك. كيف ما التفتنا، رأينا تلك المجموعة المتراصة من الناطحات غير المستوية لا طولاً ولا عرضاً ولا شكلاً، تشكل في مجموعها جبل بابل العظيم هذ، المتجه بإصرار صوب السماء. ما لن نراهما، هما ما كانا أعلى بكثير من كل هذه الأبنية العملاقة.
لنيويورك رهبة تسبقها. رهبة شوارعها المكتظة و«تاكسياتها» المتزاحمة ابداً على أحقية المرور، تتنافس على اطلاق الابواق كما لو أنها في بيروت. رهبة أنها مدينة المدن. خلاصة فردية المرء، وخلاصة كهف وحشته المخيف. نيويورك التي ندخل إليها آمنين لأن تفاصيل زيارتنا إليها ليست متروكة للصدف، وأننا لسنا مضطرين لأن نتدبر أمر أنفسنا فيها.
نصل الفندق بعد يوم وليل طويلين. الغرفة حديثة، على العكس من فندق واشنطن التاريخي يكاد السرير فيه يحتاج إلى سلم للوصول إليه. الجدار الزجاجي يطل على ورشة بناء عملاقة. الآلات تضج، للغرابة، في الحادية عشرة ليلاً. إذا كان الامر كذلك، فلا شك أن الاقامة هنا ستكون مزعجة. على أن الوقت قليل، وينبغي أن نستغله. هكذا ننزل لنمشي، وأول ما نلتقي به، على بعد شارع من الفندق، جدارية من معدن تروي بطولات رجالات الاطفاء في 11 ايلول. جدارية على بعد أمتار من الورشة التي يلتقط سياح الصور بجانب سياجها. الفندق، إذاً، يطل على الـ«غراوند زيرو». هنا كان البرجان. كانا يقفان بين النافذة وبين مجموعة الناطحات التي بعضها من زجاج وبعضها الآخر من حجر. هكذا إذاً. سنمضي ايامنا أقرب ما يكون إلى قلب حدث نيويورك الذي من الواضح أن لا نيويورك ولا أميركا مستعدتان لنسيانه، بدليل هذا الحج السياحي الذي سيستـمر خلال أيامنا فيها، والتي لو شاءت الصدف أن تدفع في الزمن قليلاً الى ما بعد الاعلان عن قتل بن لادن، لرأينا باراك اوباما يحتفل بنصره هنـا، في المساحة التي تذكرها اعلام العالم كله، وراح يبث الصور منها.
غير أن نيويورك تخطت 11 ايلول، يقول نبيل، الصديق اللبناني. تخطت وليس بالضرورة نسيت يوم القيامة فيها. نيويورك باتت في مكان آخر غير الغرواند زيرو الذي يرتفع فيه حتى الآن مبنيان من أصل المخطط المعد له.
هنا، في البرد المقبول، المشي ادمان لا بد منه لكي يقول المرء إنه زارها يوماً. المشي لساعات، حيث الارصفة وواجهات المحال تجربة، وحيث عبور جسر بروكلين من مانهاتن إلى بروكلين، مع آلاف السياح، تجربة. وحيث تايمز سكوير، التي تمتد على ابنيتها تلك الشاشات التي تبتلع المستهلكين، وترميهم، فرحين، في قلب الاعلانات، حيث اللقاء السعيد للجزائري بالجزائري، أو المقطوع بسرعة للبناني بالبائع الاسرائيلي ما ان يكشف هذا عن هويته جذلان بلا مبرر بـ«جيرانه»، حيث نصب عازف بيانو في هارلم. هنا، وهنا فقط، يبدو المكان اختباراً متواصلاً للمشاعر وللأفكار.
اسفل هذه الناطحات، لا مفرّ من الإحساس بضآلة الحجم، وبألم العنق، لمن يظل مذهولاً، ملتفتاً إلى أعلى. سحر نيويورك الحقيقي هو في مستوى النظر. لا مدينة أخرى في أميركا ربما، على هذا القدر من الانهاك. تكاد شوراع بيروت تكون افضل حالاً من شوارعها ومن ارصفتها، هي التي لا تتوقف أعمال الصيانة فيها. هذه مدينة يحتاج الخروج منها، كما الدخول إليها، في اوقات محددة من اليوم، إلى ساعات. مواقف السيارات تعلن عن نفسها كأنها مسارح، وأبناؤها يفضلون ان يكونوا بلا سيارات. لا تبدو أنها مهتمة بسياحها، ومع ذلك، فهم فيها بأعداد لا تحصى. تائهون فيها. وليس ما يشي بصفتهم هذه إلا إذا تلفتوا متفرجين. ليست اللغـة عائقاً دون أن تكون نيويوركياً. لغات العالم كله تسمع هنا. ومن يُجد التواصل مع سائقي سيارات الاجرة، فسيجيد التواصل مع أي كان. وإذا كان نادراً ما تلتقي سائقاً من البلد نفسه مرتين، فمن المستحيل ألا تكون الرحلة في السيارة الصفراء مناسبة لحوار خفيف يبدأ بالهند ويمر ببلاد العرب ويصل إلى أميركا. حوار قد يفتحه السائق نفسه حين يرحب بزبائنه بـ«السلام عليكم» التي لا يعرف غيرها، هو الهـندي المستعد، كواحدة من خدمات سيارة الاجرة التي تفوح فيها رائحة الوقود غير المحروق، لأن يؤدي أي عبارة عربية او انكليزية تقولها له بلحن هندي «حزين»، لا تملك إلا أن تمضي طوال الطريق ضاحكاً له.
بعد قليل من نيويورك تصير الناطحات مشهدا يلحقك حيث تحل، وهو مشهد لا يثير إلا الضجر. حياة المدينة تجري أسفل هذه الناطحات. تنوعنا، نحن البشر، يبلغ هنا أقصاه. تكاد البشرية كلها، بكل افكارها ومعتقداتها واحلامها وكوابيسها، موجودة في المدينة التي تعيش تناقضاتها كلها، هي المتسامحة إلى حد غير مسبوق، وهي القاسية بشدة. هي المزدحمة بالحياة، وهي التي يمكن للواحد أن يعيش ويموت فيها بلا أن يكون له صديق. هي التي يأتيها حسين بالباص من واشنطن، من أجل مطعم للسمك بعينه ينتظر زبائنه ساعات حتى يأتي موعدهم، وهي التي تدفع الزميل الفلسطيني الى المقارنة بينها وبين غزة، وهو يشاهد العرض المسرحي الراقص في برودواي والقطاع في أصعب حصاره، وفي اصعب حزنه.
هي التي لا تبدو بعيدة، ونحن نمشي في مطرها بفرح، وهي التي نكاد نفهم مشاعر التماثيل في المعرض الفني على رصيف عريض قريب من مبنى الامم المتحدة، حيث التماثيل البنية تواجه التماثيل الفضية، بتحد حيناً وبلا فهم حيناً آخر، وبيأس في أحيان كثيرة، من فهم هذه الحضارة التي يمكنها ألا تبعث في النفس إلا الوحشة العميقة بالقدر نفسه الذي تبعث على عقيدة اعتناق المتعة والمرح اسلوب حياة.
في نيويورك، تعقد لقاءات على هامش الوقت المفتوح للسياحة، تبدو ثانوية. نجول في المبنى المرهق للأمم المتحدة، كما نعقد لقاء في بعثة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، لا يبقى منه الكثير في الذاكرة غير ما بتنا نعرفه عن التزام أميركا بحليفها.
في الشوارع، في ليل المدينة وفي نهارها، تلتبس التجربة بالتباس المشهد: هل رأينا هذا من قبل؟ هل نيويورك التي في السينما عالقة في الذهن إلى هذه الدرجة؟
هل لهذه المدينة بحق، كل هذا السحر الغرائبي؟ أم هي المبالغة التي يقع فيها الغريب؟ فلوريدافجراً، نصطف في المطار. كالماشين في نومهم، يمشي الناس هنا، يخلعون أحذيتهم تباعاً، لا أحد منهم يفكر بما يفعل. الطائرة ستحمل العرب إلى الولاية الثالثة، فلوريدا. تامبا التي تقع على الخليج تبدو مكاناً مثالياً لكل ما هو نقيض لنيويورك. فيها سيختتم البرنامج بجولة على بضع مؤسسات اعلامية، منها اذاعة لا تبغي الربح وممولة من المجتمع المحلي. هي تهتم بأخبار العالم كله، وبموسيقاه. بينما نجول في أرجائها، سنسمع موسيقى مارسيل خليفة. يتبين انها ترافق برنامجاً اخبارياً عن ليبيا. يبدو الصحافي الاميركي منفتحاً على قضايانا ومتفهماً لنا، ويفرّق بين الشعب وبين ما تريده الحكومة. في لقاء آخر في مكان آخر، يسوق المدوّن حججاً غريبة في دفاعه عن العلاقة بين اسرائيل وأميركا: يعيدها حيناً الى تلك الجذور الدينية وحيناً آخر إلى ما ليس لنا ذنب فيه، وهو صورتنا الشريرة في السينما الاميركية، ليصل، بوقاحة إلى القول إن الاسرائيليين، على عكسنا، لا يفجرون الطائرات، مؤكدا، في تعميماته أن هذا ليس رأيه، بل ينقل لنا حقيقة موجودة.. ويقرر، فجأة، أن علينا أن نكون أكثر ديموقراطية لكي تشعر أميركا أننا نشبهها، مما يجعل متابعة الحوار معه اضاعة للوقت.
يحبطنا اللقاء ونحن على أبواب اختتام رحلتنا. نحمل إحباطنا إلى آخر لقاءاتنا مع صف جامعي في العلوم السياسية. هناك، تنقلب الصورة ونحن نجيب عن اسئلتهم العديدة حول ما يحدث في العالم العربي. نقدم شروحاً وافية لأسئلة دقيقة من شابات وشبان مطلعين على ما يحدث ومهتمين بدور المواقع الإلكترونية الاجتماعية. وحين تسألهم كرمى عن اهتمامهم كأميركيين بما يدور خارج بلدهم، يضحكون بما يشبه الخجل، ويعترفون بما نتهمهم به طوال الوقت: الاميركيون لا يكترثون بما يجري خارج حدودهم. يطرحون عشرات الأسباب، منها ثقتهم بحكومتهم إذ تأخذ على عاتقها هذا الشأن المعقد بالنسبة إليهم.
مع ذلك، فإن اثنتين منهما تشرحان عن اهتمامهما بالقضية الفلسطينية. وكثر منهم يوقفون ضيوفهم بعد انتهاء الصف لمزيد من الاستفسار.
في اليوم ما قبل الاخير، يجول اليخت بالعرب في بحر رقيق وصاف، فيغنون ويمرحون ويبتسم الزميلان الفلسطينيان قبل ان يكتشفا ان بعض التفاصيل تغيرت في رحلة عودتهما، بسبب اجراءات الامن عند المعابر الاسرائيلية فبات عليهما ان يمضيا يومين اضــافيين في الاردن، قبل ان يعبرا من الضفة إلى غزة. الحياة ليست سهلة عموماً، وليست سهلة على الفلسطيني بخاصة.
صباح اليوم الأخير، يأخذنا ستيف، السائق الاميركي، إلى المطار. يتفرق العرب كل إلى بلده. وفي ما يشبه الوداع، يقول لنا ستيف إنه تعرف على كل الجنسيات في خلال عمله. وقد بات على يقين بأن كل الشعوب متشابهة وكلها لطيفة ومحبة. وأن الحكومات هي التي تخترع الخلافات بين الناس.
«رافقتم السلامة» يختم، في ما يشبه رسالة أخيرة غير رسمية من الدولة التي استضافتنا لاسبوعين لكي نفهمها، فقلّ جهلنا بها بعض الشيء، وازدادت، بالتالي تعقيداً.
نسلّم الحقائب، ونمضي إلى التفتيش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق