لم يعد موجوداً.
الصندوق الذي كان يحمله رجل على ظهره، يدور فيه من مدينة إلى قرية، في القاهرة ربما، في بيروت، في ريف الشام، كأنما اختفى قبل عقود مغرقة في البعد. كأنما لم يكن يوماً، صندوق الفرجة، أو، في اسم آخر أحلى، صندوق الدنيا.
«اتفرج.. يا سلام». ثمة ما يشبه مسرحاً كاملاً، ارتفاعه أقل من قامة رجل. له عيون زجاجية سحرية، إذا نظر الأولاد من خلالها، سُحروا وخطفوا إلى عالم آخر مواز، تتحرك فيه الشخوص، شخوص الزير سالم، والشاعر المقاتل، الهائم خلف حبيبته، وعبلة التي لم تأت امرأة بحسنها في الخيال.. وشهرزاد وملكها الكئيب.. وحكاياتها المتناسلة بعضها من بعض، كي تعيش.
نحكي عن الشاشة الأولى، الأم. علينا أن نغرق في التخيل إذا أردنا أن نلمس تجربة طفل تطوف به حواسه كلها، وأولاها حاسة الذهول، وهو، في مطلع قرن العجائب الفائت، يتطلع إلى مرور الرسومات أمامه، والحكاية تسقط عليه من فوق، من حيث يقف الحاوي يدوّر بيده «المانفيلا» التي تجعل الصور تدور من اسطوانة إلى اسطوانة. تمر الصور ويحكي شعراً مقفى وشبه مغنى. العناصر نفسها مذ بدأت الحكايات. نفسها: الحب والحرب والبطولة والشجاعة.
أي أثر كان يترك صندوق الدنيا في العيون؟ ثمة مشاعر لا تصفها كلمات. تلك التي نختبرها ولا نجيد التعبير عنها ما حيينا. سرها يمكن هنا، في أنها لا تترجم. فقط تُحس. ولا يمكننا تذكرها إلا إذا تعرضنا لها نفسها. إذا عدنا إلى طريق كنا نركضه فنظن أنه أطول وأعظم طريق في العالم. إلى ملعب المدرسة الأولى. إلى اللعبة التي تخرج من علبتها بكل ألوانها، مبهرة ورائعة. هكذا على الأرجح كان يفعل الصندوق بالأولاد حين يذهبون إليه في الأعياد أو يأتي إليهم. يسحرهم، هم الذين ما زالوا يعيشون في عوالم كلها سحرية، في صندوق الدنيا نفسه، الأزرق والأبيض الذي يشبه الكرة. بعد قليل من أعمارهم، ستفقد الأشياء سحرها، ويختفي الصندوق. سيكبرون وسينزل أثر الحواس إلى أعماقهم. وقد يصادفونه ثانية، وقد يدفنونه، حيث هو، إلى الأبد.
صندوق الدنيا ليس موجوداً إلا في ذاكرة عتيقة عتيقة. مدفون. لكن اسمه استمر. نعرفه بسبب استمرار اسمه. بقي لأن كل تطور لاحق على الشاشة سمي به أو وصف به. التليفزيون ورث الاسم – الصفة، وعن حق. التليفزيون كان صندوقاً خشبياً ببابين يفتحان ويغلقان. كان صندوقاً وقد حمل الدنيا كلها إلى العيون. أيقونة القرن العشرين واختراعه العظيم، إن لم يكن الأعظم. لولاه لما خطا نيل آرمسترونغ خطوته الصغيرة تلك، على سطح القمر. لما كانت هي نفسها من دون أن يسندوا ذقونهم على أكفهم ويصابوا بنشوة الدهشة التي لا تزول. في الصندوق الأبيض والأسود، الملون لاحقاً، والذي فقد شكله مؤخراً، فصار مسطحاً، تبدل مفهومنا لأنفسنا ولحيواتنا ولعالمنا. تبدل مفهومنا لحاضرنا ومستقبلنا وماضينا. لا عبارة تفي التليفزيون حقه إلا تلك الأثيرية التي تقول إن ما بعده ليس كما قبله. التليفزيون في الأصل صندوق فرجة، وصندوق دنيا. ليس هناك من يقف بقربه ليشغله لنا، لكنه ساحرنا الدائم. شكّل ذاكرتنا المصورة وألوان خيالاتنا. نستعيد الآن الرسوم المتحركة التي كنا نشاهدها صغاراً. نتفرج عليها باحثين عن الأثر الذي طاف يوماً على جلودنا وعلى وجناتنا الطرية. نحاول العودة بالزمن لا لنعود أطفالاً بل لنحيا الآن الشعور نفسه، اللحظة نفسها. يخدش قلوبنا حنين لئيم وفظ. وتدمى القلوب إذ تعرف أن الحياة لا يمكن أن تكون لفافة يمكن أن تعاد هي نفسها، في صندوق فرجة، مرة بعد مرة. الحكاية لا تظل هي نفسها، في المرة الثانية على روايتها. كذلك الحكاية التي في الصورة. صندوق الدنيا كان ذاك الذي فتح ستارة المسرح على العصر المرئي. عالمنا بات مرئياً. صندوق الدنيا كان، ككل السابقين بريئاً وساذجاً وبسيطاً. لكن حكمتنا الإنسانية تجبرنا دائماً على التعقيد لأسباب نجهلها على الأرجح. نسل الجد المحمول على كتفي صاحبه بات صناعة عظيمة، قائداً في كل الساحات، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الاجتماع. يخترع البشر آلة ثم مع تطورها يروحون يكتشفون احتمالاتها. فجأة تصير أكثر تعقيداً بكثير مما بدأت عليه، وتصير كالمتاهة. ينكبون على التأثر بها، سلباً وإيجاباً، ويشبعونها درساً. الأطفال المختبئون دواخلنا يوغلون في اختبائهم ونفقد المتعة. وغالباً، حين نظن أننا فهمنا حدود الآلة، وتأثيراتها، تعود فتتفوق علينا. تعود لتذهلنا ونقف أمامها عاجزين. صندوق الدنيا كان مذهلاً لمن رأوه. سيكون مذهلاً أكثر لأطفال اليوم إذا رأوا أن الصور بحاجة إلى رجل يدوّر ساعده كي تتحرك. الصورة بالنسبة إليهم تتحرك من تلقاء نفسها. وإذا أردنا تحريكها فلن نجلب رجلاً. الأصابع باتت كافية لتحريك الأشياء على الشاشات الصغيرة التي تغزو أيدينا، إن في الهواتف أو في الألواح الرقمية. الأطفال يجيدون التعامل مع هذه التقنية أفضل منا بكثير، لأنها الأقرب إلى الذكاء الفطري الذي نفقده مع تقدمنا في العمر. أول البديهيات بالنسبة إلينا تحريك الأشياء بأصابعنا. أحدث أشكال التليفزيون تلك التي تخلت عن آلة التحكم، وبات بالامكان التحكم بها عن بعد، بالأصابع. الطفل الآن سيجدها صعبة على التصديق أن التليفزيون كان في الماضي بلا «ريموت كونترول». لن يعرف كي يمكن التقليب بين مئات المحطات من دونه. لن يعرف أن التليفزيون كان يقتصر على محطات بعدد أصابع يد واحدة. لن يتخيل هذا المفتاح الذي كان يدور كلما قررنا التقليب بين الخيارات المحدودة إلى هذه الدرجة. أطفال مقبلون في المستقبل لن يفهموا ما الغاية من آلة التحكم عن بعد التي كان أهاليهم يستخدمونها. ربما لن تعود الآلة نفسها موجودة كما نراها. قد تصير مجرد جهاز صغير يمكن أن يبث الصور على جدار، أو في فضاء الغرفة. سترتفع أبنية قزمة وتطير طائرات وتندلع حروب ثلاثية الأبعاد في فضاء الغرفة وقد نجد أنفسنا واقفين في منتصف حرب تدور حولنا. سيكون جهاز التليفزيون الذي نعرفه جداً أخرق وصندوق دنيا عتيقاً بالياً. لكنه سيحمل في طياته حنيناً بشرياً باقياً مذ الصندوق الأول. التليفزيون، في حالته الأحدث آخذ في التطور إلى أشكال أخرى. إلى آلة تفقد شيئاً فشيئاً إمكانية تشاركها بين أكثر من شخص، وتتحول إلى آلة شخصية. التليفزيون يتحول إلى نظارات، يكفي أن تضعها لتنتقل إلى عالم ثلاثي الأبعاد بالكامل، لك وحدك. شاشتان تصنعان مشهداً يلف عينيك تماماً. تصير جزءاً مما تشاهد. مرة جديدة يطل صندوق الدنيا بعينه الزجاجية الساخرة لنرى منها كم العالم يتطور. الشاشات التي نحملها بين طيات أغراضنا، كبيرة وصغيرة ومتوسطة. كلها صناديق دنيا، وكلنا جمهور يبحث عن الأثر الأول، ذاك المفقود. بعض الهواتف الذكية استطاعت أخيراً أن تعرض صورة ثلاثية الأبعاد من دون حاجة إلى وضع النظارات الخاصة بهذا النوع الخلّاب من الرؤية. بالأبعاد الثلاثية عاد الجهاز المسطح صندوقاً صغيراً له عمق كاف لوقوف وجلوس فرقة موسيقية كاملة ولتمايل راقصتي باليه دقيقتي الحجم على طول المسرح وعرضه. فيه أيضاً، يمكن «قراءة» كتاب رحلات جيلفر الذي لا كلمات فيه. حين تقلب أول صفحة من الكتاب، ترى سفينة تصارع أمواج البحر. بالسبابة يمكنك أن تضيف رعداً وبرقاً فوق السفينة، وترفع أمواج البحر. في الصفحة الثانية ترى جيلفر ممداً على الأرض وقد أسره الأقزام. في الثالثة والرابعة والخامسة يتابع قصته في عالم الأقزام. في السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة يصير هو القزم ويعيش مغامرات لا تحصى قبل أن ترميه النسور في البحر ويعود إلى عالمه. قصة تمر في لفافة صور. من قال إن صندوق الفرجة لم يعد موجوداً. لطالما كان معنا، ولم نكن ننتبه إليه. كل ما كان علينا فعله هو أن نقترب وأن نتفرج على دنيانا.. يا سلام.
(نشر في عدد شباط 2013 من مجلة الدوحة الثقافية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق